أشعار محمود درويش عن الوطن
فلسطين وطن محمود درويش، وقد نما حبه في قلبه منذ الصغر، حتى لقب بالشاعر الوطني، وقد رثاه في عدة قصائد حزنا على ما حلّ به، ومن أجمل أشعار محمود درويش عن الوطن ما يأتي:
◊◊◊ قصيدة: العدو
كنتُ هناك قبل شهر، كنتُ هناك قبل
سنة، وكنت هناك دائمًا كأني لم أَكن
إلاّ هناك. وفي عام 82 من القرن الماضي
حدث لنا شيء مما يحدث لنا الآن، حُوصرنا
وقُتِلْنا وقاومنا ما يُعْرَضُ علينا من جهنم،
القتلى، الشهداء لا يتشابهون . لكلِّ واحد منهم
قوامٌ خاصْ، وملامح خاصة، وعينان واسمٌ
وعمر مختلف، لكن القتلة هم الذين يتشابهون،
فَهُم واحدٌ مُوزَّعٌ على أَجهزة معدنية، يضغط
على أزرار إلكترونية، يقتل ويختفي، يرانا ولا
نراه لا لأنه شبح بل لأنه قناع فولاذيّ
لفكرة، لا ملامح له ولا عينان ولا عمر ولا
اسم، هو، هو الذي اختار أن يكون له
اسم وحيد: العَدُوّ!(1)
◊◊◊ قصيدة: بندقيَّة وكفن
لن يهزمني أَحد، ولن أَنتصر على أَحد
قال رَجُلُ الأمن المُقَنَّعُ المُكَلَّفُ مهمَّة غامضة،
أطلق النار على الهواء، وقال: على الرصاصة
وحدها أن تعرف مَنْ هو عدوِّي.
ردَّ عليه الهواء برصاصة مماثلة.
لم يكترث المارة العاطلون
من العمل بما يدور في بال رجل الأمن المقنع
العاطل مثلهم من العمل.
لكنه يبحث عن حربه
الخاصة منذ لم يجد سلامًا يدافع عنه.
نظر
إلى السماء فرآها عالية صافية.
وبما أنه لا يحبُّ الشعر فلم ير فيها مرآة للبحر.
كان
جائعًا وازداد جوعًا حين شمَّ رائحة الفلافل،
فأحسَّ بأن بندقيته تُهينُهُ.
أطلق
رصاصة على السماء لعلَّ عنقوداً من عنب
الجنّة يسَّاقط عليه.
ردّت عليه رصاصة
مماثلة فأجَّجت حماسته المكبوتة إلى القتال.
فاندفع إلى حرب متخيَّلة، وقال :
عثرت أخيرًا على عمل.
إنها الحرب.
وأَطلق النار على رجل أَمن مُقَنَّع آخر، فأصاب عدوَّه المُتَخَيَّل،
وأُصيب بجرح طفيف في ساقه.
وحين عاد
إلى بيته في المخيّم متكئًا على بندقيته، وجد
البيت مزدحماً بالمعزّين، فابتسم لأنه ظنَّ
أنهم ظنوا أنه شهيد، وقال: لم أَمت!
وعندما أخبروه أنه هو قاتل أخيه،
نظر
إلى بندقيته باحتقار، وقال: سأبيعها لأشتري
بثمنها كفنًا يليق بأخي!
◊◊◊ قصيدة: أغنيات إلى الوطن
جبين وغضب
وطني، يا أيها النسرُ الذي يغمد منقار اللهبْ
في عيوني،
أين تاريخ العرب؟
كل ما أملكه في حضرة الموت:
جبين وغضب.
وأنا أوصيت أن يزرع قلبي شجرةْ
وجبيني منزلاً للقُبَّرهْ.
وطني، إنا ولدنا وكبرنا بجراحك
وأكلنا شجر البلّوط
كي نشهد ميلاد صباحك.
أيها النسر الذي يرسف في الأغلال من دون سببْ.
أيها الموت الخرافيُّ الذي كان يحب
لم يزل منقارك الأحمر في عينيَّ
سيفًا من لهب.
وأنا لست جديرًا بجناحك
كل ما أملكه في حضرة الموت:
جبين، وغضب.
وطن
علِّقوني على جدائل نخلةْ،
واشنقوني، فلن أخون النخلةْ.
هذه الأرض لي، وكنت قديمًا،
أحلبُ النوق راضيًا ومولَّهْ.
وطني ليس حزمة من حكايا،
ليس ذكرى، وليس قصةً أو نشيدًا،
ليس ضوءًا على سوالف فُلّة.
وطني غضبة الغريب على الحزن،
وطفلٌ يريد عيداً وقبلة.
ورياح ضاقت بحجرة سجن،
وعجوز يبكي بنيه وحلقهْ.
هذه الأرض جلد عظمي،
وقلبي،
فوق أعشابها يطير كنحلة،
علِّقوني على جدائل نخلةْ،
واشنقوني فلن أخون النخلةْ.
لا مفر
مطر على أشجاره ويدي على،
أحجاره، والملح فوق شفاهي،
من لي بشبّاك يقي جمر الهوى،
من نسمة فوق الرصيف اللاهي؟
وطني، عيونك أم غيومٌ ذوَّبت
هل تأخذنَّ يدي؟ فسبحان الذي
يحمي غريبا من مذلِّة آهِ.
ظلُّ الغريب على الغريب عباءةٌ،
تحميه من لسع الأسى التيّاهِ.
هل تُلْقِيَنَّ على عراء تسولي،
أستار قبر صار بعض ملاهي،
لأشمَّ رائحة الذين تنفَّسوا،
مهدي وعطر البرتقال الساهي،
وطني، أُفتِّش عنك فيك فلا أرى،
إلاّ شقوق يديك فوق جباهِ.
وطني أتفتحُ في الخرائب كوة؟
فالملح ذاب على يدي وشفاهي،
مطر على الإسفلتِ، يجرفني إلى،
ميناءِ موتانا وجرحُك ناهِ.
رد الفعل
وطني يعلمني حديدُ سلاسلي،
عنف النسور، ورقة المتفائلِ،
ما كنت أعرف أن تحت جلودنا،
ميلادَ عاصفةٍ، وعرس جداولِ.
سَدُّوا عليَّ النور في زنزانةٍ
فتوهَّجتْ في القلب، شمسُ مشاعلِ،
كتبوا على الجدار: مرج سنابلِ،
رسموا على الجدار صورَ قاتلي.
فمحتْ ملامحَها ظلالُ جدائلِ،
وحفرتُ بالأسنان رسمك داميًا،
وكتبتُ أُغنية العذاب الراحلِ.
أغمدت في لحم الظلام هزيمتي،
وغرزت في شعر الشموس أناملي،
والفاتحون على سطوح منازلي،
لم يفتحوا إلاّ وعود زلازلي.
لن يبصروا إلاّ توهُّج جبهتي،
لن يسمعوا إلاّ صرير سلاسلي.
الموعد
لم تزل شرفةٌ هناك،
في بلادي ملوحةْ.
ويدٌ تمنحُ الملاك،
أغنيات، وأجنحةْ.
العصافير أم صداك،
أم مواعيدُ مفرحةْ.
قتلتني لكي أراك؟
وطني حبنا هلاك،
والأغاني مجرحةْ.
كلما جاءني نداك،
هجر القلب مطرحهْ.
وتلاقي على رباك،
بالجروح المفتحةْ.
لا تلمني ففي ثراك،
أصبح الحب مذبحةْ.
أحبك أكثر
تَكَبَّر، تَكَبَّر
فمهما يكن من جفاك،
ستبقى، بعيني ولحمي، ملاك،
وتبقى، كما شاء لي حبنا أن أراك.
نسيمك عنبر،
وأرضك سكَّر،
وإني أحبك أكثر.
يداك خمائلْ،
ولكنني لا أغني،
ككل البلابلْ،
فإن السلاسلْ،
تعلمني أن أقاتلْ،
أقاتل، أقاتل،
لأني أحبك أكثر.
غنائي خناجر وردْ،
وصمتي طفولة رعد،
وزنبقة من دماء،
فؤادي،
وأنت الثرى والسماء،
وقلبك أخضر.
وَجَزْرُ الهوى فيك مَدّ،
فكيف إذن لا أحبك أكثر.
وأنت كما شاء لي حبنا أن أراك،
نسيمك عنبر،
وأرضك سكَّر،
وقلبك أخضر.
وإنِّي طفل هواك،
على حضنك الحلو،
أنمو وأكبر.
◊◊◊ قصيدة: ولنا بلاد
ولنا بلادٌ لا حُدُودَ لها، كفكرتنا عن
المجهول، ضيّقَةٌ وواسِعَةٌ.
بلادٌ
حين نمشي في خريطتها تضيقُ بنا،
وتأخذنا إلى نَفَقٍ رماديّ، فنصرخ
في متاهتها: وما زلنا نحبُّك.
حُبُّنا
مَرَضٌ وراثيٌّ.
بلادٌ حين
تنبذُنا إلى المجهول تكبرُ.
يكبرُ
الصفصافُ والأوصافُ.
يكبرُ عُشْبُها
وجبالُها الزرقاء.
تَتّسعُ البحيرةُ في
شمال الروح.
ترتفعُ السنابلُ في جنوب
الروح.
تلمعُ حبّةُ الليمون قنديلاً
على ليل المُهاجِرِ.
تسطعُ الجغرافيا
كُتُباً مُقَدَّسَةً.
وسلسلةُ التلال
تصير معراجًا إلى الأَعلى، إلى الأعلى.
لو اُنّيَ طائرٌ لحرقتُ أَجنحتي يقول
لنفسه المنفيُّ.
رائحة الخريف تصيرُ
صورةَ ما أحبُّ.
تسرَّبَ المطرُ
الخفيفُ إلى جفاف القلب، فانفتح الخيالُ
على مصادِرِهِ، وصار هو المكانَ، هو
الحقيقيَّ الوحيدَ.
وكُلُّ شيء في
البعيد يعود ريفيًّا بدائيًّا.
◊◊◊ قصيدة: لبلادنا
لبلادنا،
وَهِيَ القريبةُ من كلام اللهِ،
سَقْفٌ من سحابْ.
لبلادنا،
وهي البعيدةُ عن صفاتِ الاسمِ،
خارطةٌ الغيابْ.
لبلادنا،
وهي الصغيرة مثل حبّة سُمْسُمٍ،
أُفُقٌ سماويٌّ، وهاويةٌ خفيَّةْ.
لبلادنا،
وهي الفقيرةُ مثل أَجنحة القَطاَ,
كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ وجرحٌ في الهويّةْ.
لبلادنا،
وهي المطوَّقَةُ الممزَّقةُ التلال،
كمائنُ الماضي الجديد.
لبلادنا،
وهي السَّبِيّةْ،
حُريَّةُ الموت اشتياقً واحتراقا،
وبلادُنا, في ليها الدمويِّ،
جَوْهَرَةٌ تشعُّ على البعيد على البعيد.
تُضيء خارجَها،
وأمَّا نحن، داخلها
فنزدادُ اختناقا!
◊◊◊ قصيدة: في القدس
في القدس، أَعني داخلَ السُّور القديمِ،
أَسيرُ من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ بلا ذكرى،
تُصوِّبُني.
فإن الأنبياءَ هناك يقتسمون
تاريخَ المقدَّس، يصعدون إلى السماء
كنت أَمشي فوق مُنْحَدَرٍ وأَهْجِسُ: كيف
يختلف الرُّواةُ على كلام الضوء في حَجَرٍ؟
أَمِنْ حَجَر شحيحِ الضوء تندلعُ الحروبُ؟
أسير في نومي،
أَحملق في منامي،
لا أرى أحداً ورائي،
لا أرى أَحداً أمامي.
كُلُّ هذا الضوءِ لي،
أَمشي، أخفُّ، أطيرُ
ثم أَصير غيري في التَّجَلِّي.
أَمشي كأنِّي واحدٌ غيْري.
وجُرْحي وَرْدَةٌ بيضاءُ،
ويدايَ مثل حمامتَيْنِ
تُحلِّقان وتحملان الأرضَ.
لا أمشي، أَطيرُ،
أَصيرُ غَيْري في التجلِّي.
لا مكانَ و لا زمان،
فمن أَنا؟
أَنا لا أنا في حضرة المعراج، لكنِّي
أُفكِّرُ: وَحْدَهُ، كان النبيّ محمِّدٌ،
يتكلِّمُ العربيَّةَ الفُصْحَى.
وماذا بعد؟
ماذا بعد؟ صاحت فجأة جنديّةٌ:
هُوَ أَنتَ ثانيةً؟ أَلم أَقتلْكَ؟
قلت: قَتَلْتني،
ونسيتُ مثلك أن أَموت.
أشعار محمود درويش عن الحب
بالرغم من أن محمود درويش شاعر وطني إلا أن قلبه امتلأ بالحب لمحبوبته، لكن علاقة حبه لم تستمر لظروف خارجة عن إرادته، ومن أجمل أشعاره عن الحب ما يأتي:
◊◊◊ قصيدة: وأنتِ معي
وأنتِ معي، لا أَقول: هنا الآن
نحن معًا، بل أَقول: أَنا، أَنتِ،
والأَبديةُ نسبح في لا مكانْ.
هواءٌ وماءٌ، نفكُّ الرموز، نُسَمِّي،
نُسَمَّى، ولا نتكلّم إلاّ لنعلم كم،
نَحْنُ نَحْنُ وننسى الزمانْ.
ولا أَتذكَّرُ في أَيَّ أرضٍ وُلدتِ،
ولا أَتذكر من أَيّ أَرض بُعثتُ.
هواءٌ وماء، ونحن على نجمة طائرانْ،
وأَنتِ معي يَعْرَقُ الصمتُ، يغرورقُ
الصَّحْوْ بالغيم، والماءُ يبكي الهواء،
على نفسه كلما اُتَّحد الجسدانْ،
ولا حُبَّ في الحبِّ،
لكنه شَبَقُ الروح للطيرانْ.
◊◊◊ قصيدة: هي لا تحبك أنت
هي لا تحبُّكَ أَنتَ،
يعجبُها مجازُكَ،
أَنتَ شاعرُها،
وهذا كُلُّ ما في الأَمرِ.
يُعجبُها اندفاعُ النهر في الإيقاعِ،
كن نهراً لتعجبها!
ويعجبُها جِماعُ البرق والأصوات،
قافيةً،
فكن أَلِفًا لتعجبها!
ويعجبها ارتفاعُ الشيء،
من شيء إلى ضوء،
ومن ضوءٍ إلى جِرْسٍ،
ومن جِرْسٍ إلى حِسٍّ،
فكن إحدى عواطفها، لتعجبَها.
ويعجبها صراعُ مسائها مع صدرها:
عذَّبْتَني يا حُبُّ،
يا نهرًا يَصُبُّ مُجُونَهُ الوحشيَّ،
خارج غرفتي،
يا حُبُّ إن لم تُدْمِني شبقًا،
قتلتك.
كُنْ ملاكًا، لا ليعجبها مجازُك،
بل لتقتلك انتقامًا من أُنوثتها،
ومن شَرَك المجاز، لعلَّها،
صارت تحبُّكَ أَنتَ مُذْ أَدخلتها،
في اللازورد، وصرتَ أنتَ سواك،
في أَعلى أعاليها هناك،
هناك صار الأمر ملتبسًا.
◊◊◊ قصيدة: هي، هو
هِيَ: هل عرفتَ الحبَّ يومًا؟
هُوَ: عندما يأتي الشتاء يمسُّني،
شَغَفٌ بشيء غائب، أُضفي عليه
الاسمَ، أَيَّ اسمٍ، وأَنسى.
هي: ما الذي تنساه؟ قُلْ!
هو: رَعْشَةُ الحُمَّى، وما أهذي به،
تحت الشراشف حين أَشهق : دَثِّريني،
دثِّريني!
هي: ليس حُبًا ما تقول
هو: ليس حبًا ما أَقول؟!
هي: هل شعرتَ برغبة في أن تعيش
الموت في حضن امرأةْ؟
هو: كلما اكتمل الغيابُ حضرتُ،
وانكسر البعيد فعانق الموتُ الحياةَ،
وعانَقَتْهُ كعاشقين.
هي : ثم ماذا؟
هو: ثم ماذا؟
هي: واتحَّدتَ بها، فلم تعرف يديها
من يديك وأَنتما تتبخَّران كغيمةٍ زرقاءَ،
لا تَتَبيَّنان أأنتما جسدان أم طيفان،
أَمْ؟
هو: مَنْ هي الأنثى؟ مجازُ الأرض
فينا؟ مَنْ هو الذَّكرُ السماء؟
هي: هكذا ابتدأت أغاني الحبّ.
أَنت إذن
عرفتَ الحب يومًا!
هو: كلما اكتمل الحضورُ ودُجِّن المجهول،
غبتُ.
هي: إنه فصل الشتاء ورُبَّما
أصبحتُ ماضيَكَ المفضَّل في الشتاء
هو: ربما، فإلى اللقاء
هي: ربما، فإلى اللقاء.
◊◊◊ قصيدة: لا أريد من الحب غير البداية
لا أُريدُ منَ الْحُبِّ غَيْرَ الْبدَايَةِ، يَرْفو الحَمَامُ،
فوْقَ ساَحَاتِ غَرْنَاطَتِي ثَوْبَ هَذَا النَّهارْ،
في الْجِرَارِ كِثيرٌ من الْخَمْرِ للْعِيدِ من بَعْدِنَا،
في الأَغاني نوافِذُ تكْفِي وَتَكْفِي ليَنْفَجِرَ الْجُلنَارْ.
أتْرُكُ الْفُلَّ في الْمزهريَّة، أَتْرُكُ قلْبيْ الصَّغيرْ،
في خزانَة أُمي، أتْرُكُ حُلْمي في الْماء يَضْحَكْ،
أَتْرُكُ الْفَجْرَ في عسل التّين، أَتْرُكُ يَوْميْ وأَمْسِي،
في الْمَمَرِّ إلى ساحَةِ الْبُرتُقالةِ حيْثُ يطيرُ الْحمامُ.
هَلْ أَنا مَنْ نَزَلْتُ إلى قَدَمَيْك ليَعْلُوَ الْكلامُ،
قمراً في حليب لَياليك أَبْيضَ، دُقّي الْهَوَاء،
كَيْ أَرى شارعَ النّاي أَزْرَقَ، دُقّي الْمَسَاء،
كَيْ أَرى كَيْفَ يَمْرَضُ بَيْنِي وَبَيْنَكِ هَذَا الرّخَامُ.
الشَبَابيكُ خاليةٌ مِنْ بَسَاتِينِ شَالِكِ في زَمَنٍ،
آخر كُنْتُ أَعْرفُ عنْك الْكثير، وأَقْطُفُ غاردينيا،
مِنْ أَصابِعِك الْعَشْر في زَمنٍ آخرٍ كان لي لُؤْلُؤٌ،
حَوْلَ جيدِكِ، واسمٌ على خَاتَمٍ شَعَّ منْهُ الظَّلامُ.
لا أُريدُ من الْحُبِّ غير الْبدايَةِ، طار الْحمامُ،
فَوْقَ سَقْفِ السَّماء الأخيرةِ، طَارَ الْحَمَامُ وَطَارْ،
وقليلٌ مِنْ الأرْضِ يَكْفي لكيْ نَلْتَقي، وَيَحُلَّ السَّلامُ.
◊◊◊ قصيدة: أيام الحب السبعة
الثلاثاء: عنقاء
يكفي مرورك بالألفاظ كي تجد،
العنقاء صورتها فينا، وكي تلد،
الروح التي ولدت من روحها جسدا.
لا بد من جسدٍ للروح تحرقه،
بنفسها ولها لا بد من جسد،
لتظهر الروح ما أخفت من الأبد،
فلنحترق، لا لشيءٍ، بل لنتحدا.
الأربعاء: نرجسة
خمس وعشرون أنثى عمرها ولدت،
كما تريد، وتمشي حول صورتها،
كأنها غيرها في الماء: ينقصني،
حب لأقفز فوق البرج، وابتعدت،
عن ظلها، ليمر البرق بينهما،
كما يمر غريب في قصيدته.
الخميس: تكوين
وجدت نفسي في نفسي وخارجها،
وأنت بينهما المرآة بينهما،
تزورك الأرض أحيانًا لزينتها،
وللصعود إلى ما سبب الحلما.
أما أنا، فبوسعي أن أكون كما
تركتني أمس، قرب الماء، منقسما.
إلى سماءٍ وأرضٍ، آه أين هما؟
الجمعة: شتاء آخر
إذا ذهبت بعيدًا علقي حلمي،
على الخزانة ذكرى منك، أو ذكرى،
من سيأتي شتاء آخر وأرى،
حمامتين على الكرسي ثم أرى،
ماذا صنعت بجوز الهند: من لغتي،
سال الحليب على سجادة أخرى،
إذا ذهبت، خذي فصل الشتاء، إذا.
السبت: زواج الحمام
أصغي إلى جسدي: للنحل ألهة،
وللصهيل ربابات بلا عدد،
أنا السحاب وأنت الأرض يسندها،
على السياج أنين الرغبة الأبدي،
أصغي إلى جسدي: للموت فاكهة،
وللحياة حياة لا تجددها،
إلا على جسد يصغي إلى جسد.
الأحد: مقام النهوند
يحبك، اقتربي كالغيمة، اقتربي
من الغريب على الشباك يجهش بي:
أحبها. انحدري كالنجمة، انحدري
على المسافر كي يبقى على سفر:
أحبك. انتشري كالعتمة، انتشري
في وردة العاشق الحمراء، وارتبكي
كالخيمة، كالخيم في عزلة الملك.
الاثنين: موشح
أمر باسمك، إذ أخلو إلى نفسي،
كما يمر دمشقي بأندلس،
هنا أضاء لك الليمون ملح دمي،
وههنا وقعت ريح عن الفرس،
أمر باسمك لا جيش يحاصرني،
ولا بلاد. كأني آخر الحرس،
أو شاعر يتمشى في هواجسه.
⇐ملاحظة: إذا أردتَ قراءة أشعار أو اقتباسات عن الحب، يمكن الرجوع للمقالين الآتيين:
أشعار محمود درويش عن البعد والفراق
اشتهر محمود درويش بأشعاره عن الفراق والاشتياق، لكن قد يكون فراقه فراق محبوب عن محبوبته، أم هز فراق لوطنه، أم رمزا اتخذه ليعبر عن بعض ما في نفسه، ومن أجمل أشعار محمود درويش عن الفراق ما يأتي:
◊◊◊ قصيدة: كم البعيد بعيد
كم البعيدُ بعيدٌ؟
كم هي السُبُلُ؟
نمشي
ونمشي إلى المعنى
ولا نَصِلُ.
هُوَ السرابُ
دليلُ الحائرين
إلى الماء البعيد
هو البُطْلاَن والبَطَلُ
نمشي، وتنضج في الصحراءِ
حكمتنُا
ولا نقول لأنّ التِيه يَكْتملُ
لكن حكمتنا تحتاجُ أُغنيةً
خفيفةَ الوزن،
كي لا يتعب الأَمَلُ،
كم البعيد بعيدٌ؟
كم هِيَ السُبُلُ؟(2)
◊◊◊ قصيدة: الآن بعدك
اُلآن بَعْدَكِ عند قافيةٍ مناسبةٍ
ومنفى، تُصلح الأشجارُ وقفتها وتضحك.
إنه صيف الخريف، كَعُطْلَةٍ في غير
موعدها، كثقبٍ في الزمان، وكانقطاعٍ
في نشيدِ.
صيف الخريف تَلفُّتُ الأيام صَوْبَ حديقةٍ،
خضراءَ لم تنضج فواكهُها، وصَوْب حكايةٍ،
لم تكتمل: ما زال فينا نَوْرسان يُحَلِّقان،
من البعيد إلى البعيدِ.
الشمسُ تضحَكُ في الشوارع، والنساءُ
النازلاتُ من الأَسِرِّة ضاحكاتٍ ضاحكاتٍ،
يغتسلن بشمسهنَّ الداخلية، عارياتٍ عارياتٍ.
إنه صيف الخريف يجيء من وقت إضافيِّ،
جديد.
صيف الخريف يشدُّني ويشدُّكِ: انتظرا.
لعلَّ نهايةً أُخرى وأجملَ في انتظاركما أمام
محطة المترو. لعلَّ بدايةً دخلت إلى
المقهى ولم تخرج وراءكما. لعلَّ خطابَ
حبّ ما تأخَّرَ في البريدِ.
اُلآن، بعدك عند قافية ملائمة،
ومنفى، تُصْلِحُ الأشجار وقفتها وتضحك.
كعطلة في غير موعدها. سنعلم أَنه
فَصْلٌ يدافع عن ضرورته، وعن حُبّ
خرافيّ، سعيدِ.
الشمسُ تضحكُ من حماقتنا وتضحكُ،
لن أَعود ولن تعودي!
◊◊◊ قصيدة: في الانتظار
في الانتظار، يُصيبُني هوس برصد
الاحتمالات الكثيرة: ُربَّما نَسِيَتْ حقيبتها
الصغيرة في القطار، فضاع عنواني
وضاع الهاتف المحمول، فانقطعت شهيتها
وقالت: لا نصيب له من المطر الخفيف
وربما انشغلت بأمر طارئٍ أو رحلةٍ
نحو الجنوب كي تزور الشمس، واتَّصَلَتْ
ولكن لم تجدني في الصباح، فقد
خرجت لأشتري غاردينيا لمسائنا وزجاجتينِ
من النبيذ
وربما اختلفت مع الزوجِ القديم على
شئون الذكريات، فأقسمت ألا ترى
رجلاً يُهدِّدُها بصُنع الذكريات
وربما اصطدمت بتاكسي في الطريقِ
إليَ، فانطفأت كواكب في مَجَرّتها.
وما زالت تُعالج بالمهدىء والنعاس
وربما نظرت الى المرآة قبل خروجها
هل يستحقُّ أنوثتي أحد سوايَ
وربما عبرتْ، مصادفةً، بِحُبٍّ
سابقٍ لم تَشْفَ منه، فرافقته إلى
العشاءِ
وربَّما ماتَت،
فان الموت يعشق فجأة، مثلي،
وإن الموتَ، مثلي، لا يحبُّ الانتظار.
◊◊◊ قصيدة: رأيت الوداع الأخير
رَأَيْتُ الوَدَاعَ الأخِيرَ: سَأْودعُ قَافِيَةً مِنْ خَشَبْ
سَأْرْفَعُ فَوْقَ أَكُفّ الرِّجَال، سَأُرْفَعُ فَوْقَ عُيُونِ النِّسَاءْ
سَأُرْزَمُ في عَلَمٍ، ثُمَّ يُحْفَظُ صَوْتِيَ فِي علَبِ الأَشْرِطَهْ
سَتُغْفَرُ كُلُّ خَطَايَايَ فِي سَاعَةٍ، ثُمَّ يَشْتُمُنِي الشُّعَرَاءْ.
سَيَذْكُرُ أَكْثَرُ مِنْ قَارِئٍ أَنّنَي كُنْتُ أَسْهَرُ فِي بَيْتِهِ كُلَّ لَيْلَه.
سَتَأتي فَتَاةُ وتَزْعُمُ أَنِّي تَزَوَّجْتُهَا مُنْذُ عِشْرِينَ عَامًا وأكثر.
سَتُرْوَى أَسَاطِيرُ عَنِّي، وَعَنْ صَدَفٍ كُنْتُ أَجْمَعُهُ مِنْ بِحَارٍ بَعِيدَهْ.
سَتَبْحَثُ صَاحِبَتِي عَنْ عَشِيقٍ جَديدٍ تُخَبِّئُهُ فِي ثِيَابِ الحِدَادْ.
سَأَبْصِرُ خَطَّ الجَنَازَةِ، وَالمَارَّة المُتْعبِينَ مِنَ الانْتِظَارْ.
وَلَكِنِّنِي لاَ أَرَى القَبْرَ بَعْدُ. أَلاَ قَبْرَ لِي بَعْدَ هَذَا التَّعَبْ؟
المراجع:
(1) الديوان، العدو، تم الاطلاع عليه بتاريخ 28/12/2021.
(2) بوابة الشعراء، كم البعيد بعيد، تم الاطلاع عليه بتاريخ 28/12/2021.