تعتبر قصيدة واحر قلباه واحدة من أشهر قصائد المتنبي وأجملها، وقد نالت شهرة واسعة لما حوته من جميل اللفظ والمعاني والعبارات، وسنتناول في هذا المقال شرح قصيدة واحرّ قلباه للمتنبي بالتفصيل.
التعريف بأبي الطيب المتنبي
من هو المتنبي؟
اسمه أحمد بن الحسين ونسبه الجعفي الكندي مولده في الكوفة، ويلقب بشاعر العرب، وهو شاعر عباسي ولد سنة 303هـ. ولم يعش طويلًا فقد قُتل على يد الفاتك بن أبي جهل الأسدي في بغداد سنة 354هـ.
كان المتنبي ولا زال نابغة من نوابغ العرب في اللغة والشعر، وقد اتخذه كثير من شعراء عصره حتى عصرنا هذا قدوة وانموذجا احتذوا به، وحاولوا التعلم منه والنهل من قدراته على صياغة اللغة واستخدام عباراتها وحسن نظمها، فكان شاعر العرب وأشعر الشعراء كما يقول بعض النقاد عنه.
كتب المتنبي الكثير من القصائد وله ديوان شعري يحوي معظم أغراض الشعر من مديح ورثاء وغزل وهجاء واعتداد بالنفس. واتسمت قصائده بالغموض في بعض الأحيان فهو يضمر فيها ما لا يظهره، فقد تكون قصيدة مدح يضمنها هجاء كما سنرى في شرحنا لقصيدته واحرّ قلباه.(1)
⇐يمكنك قراءة:أجمل قصائد المتنبي.
مناسبة قصيدة واحرّ قلباه
ما هو سبب كتابة المتنبي لهذه القصيدة؟
كتب المتنبي قصيدته واحر قلباه بعد الألم الشديد الذي لحق به جرّاء الوشاة الذين حاولوا التفريق بينه وبين سيف الدولة الحمداني. وقد كان حظي بمنزلة رفيعة عنده، فكان شديد الاعتداد بنفسه ذو كبرياء عالٍ يرفض أن يلقي قصيدة على مسمع خليفة أو أمير وهو واقف. وقد حاول المتنبي مرارا وتكرارا أن يوضح لسيف الدولة موقف الوشاة منه وإصلاح الأمر، لكن مع الأسف لم يستجب له سيف الدولة، لذلك فهذه القصيدة تكشف موقف الوشاة ويعاتب المتنبي فيها سيف الدولة تارة ويمدحه تارة أخرى. مع الاعتداد الكبير بنفسه في هذه القصيدة.
قصيدة واحر قلباه
واحرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
مالي أكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي
وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدَولَةِ الأمَمُ
إن كانَ يَجمَعُنا حبٌّ لِغُرَّتِهِ
فليتَ أنَّا بِقَدْرِ الحبِّ نَقتسِمُ
يا أعدلَ الناسِ إلا في معامَلتي
فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخَصْمُ والحَكَمُ
أعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةً
أن تَحْسبَ الشَّحمَ فيمَن شَحْمُهُ وَرَمُ
وما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظرِهِ
إذا استَوَت عندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ
أنا الذي نظَر الأعمى إلى أدبي
وأسْمعَت كلماتي مَن بهِ صَمَمُ
أنامُ مِلْءَ جُفُوني عن شوارِدِها
ويَسْهَرُ الخلقُ جرَّاها وَيَختَصِمُ
إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً
فَلا تَظُنَّنَّ أنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعْرِفُني
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقَلمُ
يا مَن يَعِزُّ علينا أن نُفارقهم
وِجْدانُنا كل شيءٍ بعْدَكُم عَدَمُ
ما كان أخلقنا منكم بتَكرمَةٍ
لو أنَّ أمرَكُمُ مِن أمرِنا أمَمُ
إن كانَ سرَّكمُ ما قال حاسدُنا
فما لجُرح إذا أرضاكُمُ ألَمُ
وبيننا لَو رعيتُم ذاك مَعرفةٌ
إن المعارِفَ في أهلِ النُّهى ذِمَمُ
كَم تَطلُبونَ لنا عيباً فَيُعجِزُكُم
وَيَكرَهُ اللهُ ما تأتونَ والكَرَمُ
ليتَ الغمامَ الذي عندي صواعقُهُ
يُزيلُهُنَّ إِلى مَن عندَهُ الدِّيَمُ
أرى النَّوى يَقتضيني كلَّ مرحلَةٍ
لا تَستقلُّ بِها الوَخّادَةُ الرُّسُمُ
لئنْ تَرَكْنَ ضميرا عن ميامِنِنا
ليَحْدُثَنَّ لِمَنْ وَدَّعتُهم نَدَمُ
إذا ترحَّلتَ عن قومٍ وقد قدَروا
ألا تُفارِقهُمْ فالرَّاحلونَ هُمُ
شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ
وشرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ
هذا عتابُكَ إلّا أنَّهُ مِقَةٌ
قد ضُمِّنَ الدُرَّ إلّا أنَّهُ كَلِمُ.(2)
شرح قصيدة واحرّ قلباه
واحرّ قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
معاني المفردات:
واحرّ قلباه: نداء للندبة، ومعناه يا لشدة حرارة قلبي وألمي.
شبم: الشبم هو الماء البارد، وقد استخدمها المتنبي بأسلوب كناية ليدل على أن قلب سيف الدولة الحمداني بارد جهته.
سقم: مرض.
شرح البيت:
يقول المتنبي يا لحرارة وألم قلبي على حبي لسيف الدولة حتى صرتُ سقيمًا مريضًا، وهو قلبه بارد جهتي لا يحبني.
مالي أُكَتّم حبًا قد برى جسدي
وتدعي حبّ سيف الدولة الأممُ
معاني المفردات:
أُكتّم: صيغة مبالغة من الفعل كتم، ومعناه أخفي.
برى: أنهك وأتعب.
تدعي: الادعاء هو إظهار شيء بشكل كاذب.
شرح البيت:
هنا في هذا البيت يتابع المتنبي وصف شعوره وألم قلبه فيقول أنا أحبك يا سيف الدولة حبا شديدا حتى أتعب وأنهك جسدي. ولكنني أكتم ذلك الحب، أما باقي الناس فإنهم يظهرون لك عكس ما يضمرون فهم يدعون حبك.
إن كان يجمعنا حبٌّ لغرّته
فليت أنّا بقدر الحب نقتسم
معاني المفردات:
غرّته: هي مقدمة الرأس، وقد استخدمها المتنبي كناية فذكر الجزء وأراد الكل.
شرح البيت:
هذا البيت يمتلئ بالعتاب لسيف الدولة، فهو يقول له لو كنت أنا وباقي الناس نحبك، فليت لو كانت عطاءاتك بقدر محبة كل شخص لك. وهنا يريد أن يخبره بشكل غير مباشر أن عطاءاتك لي ليست بقدر محبتي لك، وهذا يتضح من البيت التالي عندما يقول:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
شرح البيت:
فأنت يا سيف الدولة عادل مع كل الناس إلا معي، لكنني لا أستطيع أن أخاصمك وأحاكمك عند أي أحد لأنك أنت الحاكم. وقد ضمّن المتنبي في هذا البيت هجاء لسيف الدولة فأنت أعدل الناس لكنك تظلمني، أليس هذا هجاء؟
أُعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
معاني المفردات:
أعيذها: أنزهها، أو أرفعها عن ذلك.
الشحم: هو الدهن.
شرح البيت:
نجد هنا سخرية من سيف الدولة مع أن ظاهر البيت مديح، فإنني أعيذ نظراتك وأنزهك عن أن تظن بأن الإنسان العليل السقيم الذي عنده ورم ومرض بأنه سمين وهذا الورم شحم. يريد أن يقول له بأنه يجب أن تميز بين من يحبك بصدق وبين من يدعي حبك.
الفكرة الرئيسية في الأبيات السابقة
يعبر المتنبي عن ألمه وحرقة قلبه على حبه لسيف الدولة وبرود سيف الدولة جهته. ويعاتبه على استماعه للواشين ويطلب منه أن يكون ذو بصيرة ووعي أكبر. لذلك يستمر بالقول:
وما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظرِهِ
إذا استَوَت عندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ
معاني المفردات:
انتفاع: مصدر صريح من الفعل انتفع معناه الفائدة.
استوت: تساوت وتقاربت.
الظُلم: جمع ظلمة ومعناه العتمة.
شرح البيت:
يكمل الشاعر في الحديث عن أن الإنسان يجب أن يميز بين الصواب والخطأ، فلا فائدة لنظر الإنسان إن لم يفرق بين النور والظلام، وهذا البيت فيه هجاء مبطن لسيف الدولة أيضًا.
أنا الذي نظَر الأعمى إلى أدبي
وأسْمعَت كلماتي مَن بهِ صَمَمُ
أنامُ مِلْءَ جُفُوني عن شوارِدِها
ويَسْهَرُ الخلقُ جرَّاها وَيَختَصِمُ
معاني المفردات:
صمم: فقدان حاسة السمع.
ملء جفوني: كناية عن النوم الهانئ، لا يشغل تفكيره شيء.
شواردها: جمع شاردة، وهي القصيدة التي تنتشر.
جرّاها: من أجلها.
شرح البيتين:
يبدأ الشاعر في هذين البيتين بإظهار اعتداده بنفسه وفخره بذاته وشعره، فمن شدة اشتهار شعره فقد نظر إليه الأعمى، وكلماته اخترقت المسامع حتى وصلت إلى الأصم، لذلك فهو ينام مرتاحًا هانئًا لا يشغله نظم شعر أو كتابته، أما باقي الناس فإنهم يسهرون من أجلها.
إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً
فَلا تَظُنَّنَّ أنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ
شرح البيت:
الآن يعود المتنبي مرة أخرى ليعرض بسيف الدولة ويكمل عتابه على عدم قدرته على التمييز بين الحق والباطل. فيقول له إذا رأيت أنياب الليث بارزة فلا تظن أنه يبتسم؛ لأن الليث المفترس لا يمكن أن يصبح يوما مسالما.
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعْرِفُني
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقَلمُ
معاني المفردات:
البيداء: الصحراء، الأرض القاحلة.
القرطاس: الصحيفة التي يكتب فيها.
شرح البيت:
يعود المتنبي مرة أخرى يفتخر بنفسه ويمدحها ويعتد بها، لذلك يقول أن كل شيء في هذه الدنيا يعرفني حتى الصحراء والقلم والخيل والليل، وكأنه يريد أن يقول لسيف الدولة أنني لا ينقصني شيء وأن كرامتي لن تقل بمجرد محبتي لك الكبيرة.
الفكرة الرئيسية في الأبيات السابقة
يبدأ الشاعر في الأبيات الخمسة السابقة بعرض فكرتين رئيسيتين وهما: التعريض بسيف الدولة مع عتابه، والفخر بنفسه واعتداده بها، فتارة يعاتبه على عدم تمييزه بين الحق والباطل بالصور المختلفة، وتارة يفخر بنفسه.
يا مَن يَعِزُّ علينا أن نُفارقهم
وِجْدانُنا كل شيءٍ بعْدَكُم عَدَمُ
شرح البيت:
يقول الشاعر أنه يعز علي أن أفارقك، ويصف حاله بعد فراقه بأن وجدانه ونفسه أصبحت خاوية، وكأنه يريد أن يخبره بأن لا معنى للحياة بالبعد عنك.
ما كان أخلقنا منكم بتَكرمَةٍ
لو أنَّ أمرَكُمُ مِن أمرِنا أمَمُ
معاني المفردات:
أخلقنا: أجدرنا.
أمَم: قريب.
شرح البيت:
المتنبي في قلبه رغبة بالتكرمة والهدايا والمنزلة العالية، لذلك يعود الشاعر مرة أخرى ليعاتب سيف الدولة فيقول له: أنني أجدر الناس بالتكرمة لو أن مكانتي عندك كمكانتك عندي. وينوع الشاعر في استخدام أسلوب الجمع تارة وأسلوب المفرد تارة أخرى.
إن كانَ سرَّكمُ ما قال حاسدُنا
فما لجُرح إذا أرضاكُمُ ألَمُ
شرح البيت:
هنا يشتد العتاب لسيف الدولة، فلم تعد عتابات المتنبي مقتصرة على المنزلة والعطايا التي يريدها وإنما راح يعاتبه على استماعه للوشاة، لكن المتنبي ذكي جدا فبالرغم من عتابه له إلا أنه يقول له: إن كان سرك وأسعدك ما قال الحساد والوشاة عني فإن الجروح بالنسبة لي لا ألم بها إن كانت ترضيكم.
وبيننا لَو رعيتُم ذاك مَعرفةٌ
إن المعارِفَ في أهلِ النُّهى ذِمَمُ
كَم تَطلُبونَ لنا عيبًا فَيُعجِزُكُم
وَيَكرَهُ اللهُ ما تأتونَ والكَرَمُ
معاني المفردات:
ذمم: جمع ذمة وهي العهد.
رعيتهم: حافظتهم وراعيتهم معرفتكم لنا.
شرح البيتين:
ولأن الغرض الرئيسي من قصيدة واحر قلباه هو العتاب؛ لذلك لا نكاد نجد بيتا يخلو من العتاب لسيف الدولة، فيستمر المتنبي ويقول: أنك يا سيف الدولة لو راعيت المعرفة التي بيننا لما استمعت للوشاة، والمعارف في أهل العقول كالذمم، لكنك استمعت لهم وجاريتهم وطلبت لي عيوبا لكنك لم تجد فيّ شيء يعيبني، والذي تفعله يكرهه الله ويكرهه أهل الكرم.
ليتَ الغمامَ الذي عندي صواعقُهُ
يُزيلُهُنَّ إِلى مَن عندَهُ الدِّيَمُ
معاني المفردات:
الغمام: جمع غمامة وهي السحابة السوداء.
صواعقه: جمع صاعقة وهي الصوت الشديد مع الرعد.(3)
الديم: جمع ديمة وهو المطر المتواصل.
شرح البيت:
يرجو المتنبي كما رجا في الأبيات السابقة أن يكون الشر عند الذين يدعون حبه، والخير عنده، فيصف حال سيف الدولة بأنه يمطر على المتنبي بالصواعق المهلكة، بينما يعطي الآخرين الديم أي المطر والخير.
الفكرة الرئيسية في الأبيات السابقة
هنا وبالتحديد في هذه الأبيات يكون العتاب على استماع سيف الدولة للوشاة ويطالبه مرة أخرى أن يكون ذو بصيرة فيميز بين الحق والباطل.
أرى النَّوى يَقتضيني كلَّ مرحلَةٍ
لا تَستقلُّ بِها الوَخّادَةُ الرُّسُمُ
لئنْ تَرَكْنَ ضميرا عن ميامِنِنا
ليَحْدُثَنَّ لِمَنْ وَدَّعتُهم نَدَمُ
إذا ترحَّلتَ عن قومٍ وقد قدَروا
ألا تُفارِقهُمْ فالرَّاحلونَ هُمُ
معاني المفردات:
النوى: البعد.(4)
يقتضيني: يأخذ مني، أو يكلفني.
الوخادة الرسم: الإبل السريعة.
شرح الأبيات:
إن البعد عنك يا سيف الدولة يتطلب مني قطع مسافات طويلة لا تقدر عليها الإبل السريعة، لكنني سأرحل وأنت ستندم، فإنك لم تتوقع رحيلي وفراقي لك لذلك فأنت الراحل وأنت المفارق.
شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ
وشرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ
معاني المفردات:
يصِم: يجلب العار.
شرح البيت:
يقول المتنبي أن أسوأ الأماكن هي التي لا صديق بها، وشر ما قد يفعله الإنسان في حياته ما يجلب له العار، وكأنه يقول لسيف الدولة أنت تفعل ما يجلب العار.
هذا عتابُكَ إلّا أنَّهُ مِقَةٌ
قد ضُمِّنَ الدُرَّ إلّا أنَّهُ كَلِمُ.
معاني المفردات:
مقة: محبة.
شرح البيت:
ينهي المتنبي قصيدته بوصفه بأن العتاب الذي عاتبه لسيف الدولة ما هو إلا محبة كبيرة منه، وأن هذا العتاب مليء بالدرر على الرغم من أنه كلام.
الفكرة الرئيسية في الأبيات السابقة
رحيل المتنبي عن سيف الدولة ووصفه لسوء الحال التي سيصل إليها سيف الدولة بعد رحيله عنه.
المراجع: